الحمدلله القوي المتين , القاهر الظاهر الملك الحق المبين , لا يخفى على سمعه خفُّي الأنين,
ولا يغرب عن بصره حركات الجنين , ذلّ لكبريائه جبابرة السلاطين,
وقضى القضاء بحكمته وهو أحكم الحاكمين , أحمده حمد الشاكرين ,
وأساله معونة الصابرين, و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له في الأولين والآخرين,
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
المصطفى على العالمين.
اليوم الآخر: يوم القيامة الذي يُبْعثُ الناس فيـه ؛ للحساب ، والجزاء .
وسمِّي بذلك ؛ لأنه لا يوم بعده ، حيث يستقرُ أهل الجنة في منازلهم ، وأهل النار في منازلهم .
تقتل، وتعتدي، وتغتصب، وتزني، تدمر امرأة، تطلقها طلاقاً تعسفياً،
تأخذ الاسم التجاري من شريكك عدواناً واغتصاباً، تسخر الناس لمصلحتك،
تعصر الناس عصراً، وتنتهي الحياة ولا شيء بعد ذلك.
(( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى )) [ سورة القيامة الآية:36 ]
تعمل كل شيءٍ لصالحك، تسخِّر كل شيءٍ لصالحك،
وتنتهي الحياة ولا شيء بعد الموت هذا هو العبث , تعالى الله عن العبث.
(( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً )) [ سورة المؤمنون الآية: 115 ]
العبث لا يتناسب مع كمال الله ، الله عز وجل عدل، أنت بالإيمان بالله واليوم الآخر ترتدع،
تقف عند حدودك، تأخذ ما لك، وتدع ما ليس لك.
ما الذي يمنع الناس أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً اغتصاباً وعدواناً ؟
الإيمان بالله واليوم الآخر،
ما الذي يمنع الناس أن ينغمسوا في المحرمات ؟
إنه الإيمان بالله واليوم الآخر.
لو تتبعت آثار الإيمان بالله واليوم الآخر , لوجدت أن الضابط الاجتماعي في العلاقات الاجتماعية
والاقتصادية والأسرية يرجع في معظمه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
والإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور :
الأول : الإيمان بالبعث :
وهو إحياء الموتى حين ينفخُ في الصور النفخة الثانية ؛
فيقوم الناس لرب العالمين ، حفاة غيرَ منتعلين ، عراة غيرَ مستترين ، غُرلاً غيرَ مختتنين ،
قال الله تعالى : (( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنـَّا كُنَّا فَاعِلِينَ )) [سورة الأنبياء : 104] .
والبعث : حقٌّ ثابت ، دلَّ عليه الكتابُ ، و السُّنَّةُ ، وإجماع المسلمين .
قال الله تعالى :
(( ثـُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثـُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ )) [سورة المؤمنون : 15 ، 16] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ) .
وأجمع المسلمون على ثبوته ، وهو مقتضى الحكمة ،
حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معادًا ،
يجازيهم فيه على ما شرعه لهم فيما بعث به رسله ،
قال الله تعالى : (( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )) [سورة المؤمنون : 115]
وقال لنبـِـيـِّه صلى الله عليه وسلم :
(( إِنَّ الَّــذِي فَــرَضَ عَلَيْــكَ الْقُـرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ )) [سورة القصص : 85] .
الثاني مما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر :
الإيمان بالحساب والجزاء : يحاسَبُ العبد على عمله ، ويجازى عليه ،
وقد دلَّ على ذلك الكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين .
قال الله تعالى : (( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثـُمَّ إِنَّ عَلَيْنَاحِسَابَهُمْ )) [سورة الغاشية : 25 ، 26]
وقال تعالى :
(( مَن جَاء بـِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بـِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ))
[سورة الأنعام : 160]
وقال تعالى :
(( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بـِهَا وَكَفَى بـِنَا حَاسبـِـينَ ))
[ سورة الأنبياء : 47] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
[ إن الله يدني المؤمن ؛ فيضع عليه كنفه - أي ستره - ويسترهُ ،
فيقـول : أتعـرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم ، أي رب ، حتى إذا قـَرَّرَهُ بذنوبه ،
ورأى أنه قد هلك ؛ قال :قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفـرها لـك اليوم ؛
فيعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون ؛ فينادى بهم على رؤوس الخلائق :
هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنةُ الله على الظالمين ] .
وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( أن من همَّ بحسنة فعملها ؛ كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف
إلى أضعاف كثيرة ، وأن من همَّ بسيئة فعملها ؛ كتبها الله سيئة واحدة ) .
وقد أجمع المسلمون على إثبات الحساب والجزاء على الأعمال ، وهو مقتضى الحكمة ؛
فإن الله تعالى أنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، وفرض على العباد قبول ما جاءوا به ،
و العمل بما يجب العمل به منه ، وأوجب قتال المعارضين له وأحلَّ دماءهم ، وذرِّيَّاتهم ،
ونساءهم ، وأموالهم ، فلو لم يكن حساب ولا جزاء ؛
لكان هذا من العبث الذي ينزهُ الرب الحكيم عنه ، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله :
(( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بـِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئبينَ )) [سورة الأعراف : 6 ، 7] .
الثالث مما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر : الإيمان بالجنة والنار وأنهما المآل الأبدي للخلق .
فالجنة دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين ،
الذين آمنوا بما أوجب الله عليهم الإيمان به ، وقاموا بطاعة الله ورسوله ، مخلصين لله ،
مُتَّبـِعِـين لرسوله ، فيها من أنواع النعيم .. ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر) ..
قال الله تعالى:
(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ))
[سورة البينة : 7 ، 8]
وقال تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بـِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))
[سورة السجدة : 17] .
وأما النار : فهي دار العذاب التي أعدَّها الله تعالى للكافرين الظالمين ،
الذين كفروا به وعصوا رسله ، فيها من أنواع العذاب ،
والنـَّـكال ما لا يخطر على البال
قال الله تعالى :
(( وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )) [سورة آل عمران : 131] ،
وقال تعالى:
(( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بـِهِمْ
سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بـِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بـِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ))
[سورة الكهف: 29] ،
وقال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجـِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ))
[سورة الأحزاب : 64، 66] .
ويلتحق بالإيمان باليوم الآخر :
الإيمان بكل ما يكون بعد الموت مثل :
(أ) فتنـة القبر : وهي سؤال الميـت بعد دفنـه عن ربه ، ودينه ، ونبيه ؛
فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ،
ونبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم ،
ويضلُ الله الظالمين فيقول الكافر : هـاه ، هاه ، لا أدري ، ويقـول المنافق أو المرتاب
: لا أدري سمعت النـاس يقولون شيئـًا فقلته .
(ب) عذاب القبر ونعيمه : فيكون للظالمين من المنافقين والكافرين ،
قال الله تعالى : (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ
أخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بـِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ
وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبـِرُونَ )) [سورة الأنعام : 93].
وقال تعالى في آل فرعون :
(( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))
[سورة غافر : 46] .
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( فلولا أن لا تدافنوا ؛ لدعوتُ الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ،
ثم أقبل بوجهه ؛ فقال: تعوَّذوا بالله من عذاب النار ) قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ،
فقال : (تعوَّذوا بالله من عذاب القبر) ، قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر ،
قال: ( تعوَّذوا بالله من الفتن ، ما ظهر منها ، وما بطن ) ،
قالوا : نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، قال: ( تعوَّذوا بالله من فتنة الدجال )
قالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال .
وأما نعيم القبر ؛ فللمؤمنين الصادقين
قال الله تعـالى :
(( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثـمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بـِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )) [سورة فصلت : 30]
وقال تعالى :
(( فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ*
فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبينَ *
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ )) [سورة الواقعة: 83 ، 89] .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
في المؤمن إذا أجاب الملكين في قبره : ( ينادي منادٍ من السماء : أن صدق عبدي ،
فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابـًا إلى الجنة ،
قال: فيأتيه من رَوحها وطِـيبها ، ويفسحُ له في قبره مدَّ بصره ) .
وقد ضلَّ قوم من أهل الزَّيغ فأنكروا عذاب القبر ، ونعيمه ،
زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفته الواقع ، قالوا : فإنه لو كشف عن الميِّت في قبره ؛
لوجد كما كان عليه ، والقبر لم يتغير بـِسِعَةٍ ، ولا ضِـيق .
وهذا الزعم باطل ؛ بالشرع ، والحس ، و العقل :
أما الشرع : فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر ، ونعيمه .
وفي صحيح البخاري - من حديث - ابن عباس رضي الله عنه قال :
( خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة ؛
فسمع صوت إنسانين يُعَذبَانِ في قبورهما) وذكر الحديث ، وفيه : )
أن أحدهما كان لا يستتر من البول ) وفي رواية : (من بوله) ، وأن الآخر كان يمشي بالنميمة )
وفي رواية لمسلم : ( لا يستنزه من البول ) .
وأما الحس : فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج ، يتنعم فيه ،
أو أنه كان في مكان ضيق موحش ، يتألم منه ، وربما يستيقظ أحيانـًا مما رأى،
ومع ذلك فهو على فراشه في حجرته على ما هو عليه ، والنوم أخو الموت ،
ولهذا سماه الله تعالى : (وفاة)
قال الله تعالى :
(( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ))
[سورة الزمر : 42] .
وأما العقل : فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للواقع ،
وربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صفته ، ومن رآه على صفته ؛ فقد رآه حقًّا ،
ومع ذلك ، فالنائم في حجرته على فراشه بعيدٌ عما رأى ،
فإذا كان هذا ممكنـًا في أحوال الدنيا ؛ أفلا يكون ممكنـًا في أحوال الآخرة ؟!
وأما اعتمادهم فيما زعموه على أنه لو كشف عن الميِّت في قبره ؛
لوجد كما كان عليه ، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق ؛ فجوابه من وجوه منها :
الأول: أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع ،
بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمَّل المعارض بها ما جاء به الشرع حقَّ التأمل ؛
لعلم بطلان هذه الشبهات ، وقد قيل :
وكم من عائبٍ قولاً صحيحـًا وآفته من الفَهمِ السقيمِ
الثاني : أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحسُّ ، ولو كانت تدرك بالحس ؛
لفاتت فائدة الإيمان بالغيب ، ولتساوى المؤمنون بالغيب ، و الجاحدون في التصديق بها .
الثالث: أن العذاب ، والنعيم ، وسعة القبر ، وضيقه ؛ إنما يدركها الميِّتُ دون غيره ،
وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيِّق موحش ، أو في مكان واسع بهيج ،
والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به ، ولقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ،
وهو بين أصحابه ؛ فيسمعُ الوحي ، ولا يسمعهُ الصحابة ، وربما يتمثَّل له الملك رجلاً فيكلِّمه ،
والصحابة لا يرونَ الملك ، ولا يسمعونه .
الرابع : أن إدراك الخلق محدود بما مكنهم الله تعالى من إدراكه ،
ولا يمكن أن يدركوا كل موجـود ، فالسموات السَّبع ، والأرض ، ومن فيهن ،
وكل شـيء يسبحُ بحمد الله تسبيحـًا حقيقيـًّا ، يُسمعه الله تعالى من شاء من خلقه أحيانـًا ،
ومع ذلك هو محجوب عنا ،
وفي ذلك يقول الله تعالى :
(( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بـِحَمْـدِهِ
وَلَكِـن لاَّ تَفْقَهُـونَ تَسْبيحَهُمْ ))
[سورة الإسـراء : 44] ،
وهكذا الشياطين ، والجن يسعون في الأرض ذهابـًا وإيابـًا ،
وقد حضرت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا لقراءته ، وأنصتُوا ،
وولَّوا إلى قومهم منذرين، ومع هذا ؛ فهم محجوبون عنا ،
وفي ذلك يقول الله تعالى :
(( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا
سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ))
[سورة الأعراف:27] ،
وإذا كان الخلق لا يدركون كل موجود ؛
فإنه لا يجوز أن ينكروا ما ثبت من أمور الغيب ، ولم يدركوه .
وللإيمان باليوم الآخر ثمراتٌ جليلة منها :
الأولى : الرغبة في فعل الطاعة ، والحرص عليها ؛ رجاء لثواب ذلك اليوم .
الثانية : الرهبة من فعل المعصية ، ومـن الرضـى بها ؛ خوفـًا من عقاب ذلك اليوم .
الثالثة : تسلية المؤمن عمَّا يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة ، وثوابها .
وقد أنكر الكافرون البعث بعد الموت ؛ زاعمين أن ذلك غير ممكن .
وهذا الزعم باطل ، دلَّ على بطلانه الشرع ، والحس ، و العقل .
أما الشرع : فقد قال الله تعالى :
( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثـُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بـِمَا عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
[سورة التغابن : 7] .
وقد اتفقت جميع الكتب السماوية عليه .
وأما الحس : فقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا ، وفي سورة البقرة ،
خمسة أمثلة على ذلك ، هي :
المثال الأول :
قوم موسى حين قالوا له : (( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )) [سورة البقرة : 55]
فأماتهم الله تعالى ، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطبـًا بني إسرائيل :
(( وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ *
ثـُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) [سورة البقرة : 55 ، 56] .
المثال الثاني :
في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل ،
فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ؛ ليخبرهم بمن قتله ،
وفي ذلك يقول الله تعالى :
(( وَإِذ قَتَلْتُمْ نَفْسـًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ *
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ ببَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيي اللّهُ الْمَـوْتَى وَيُرِيكُـمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ))
[سورة البقرة : 72، 73]
المثال الثالث :
في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت وهم ألوف ؛ فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم
وفي ذلك يقول الله تعالى :
(( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ
فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثـُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَشْكُرُونَ ))
[سورة البقرة : 243].
المثال الرابع :
في قصة الذي مرَّ على قرية مـَيـِّتةٍ ، فاستبعد أن يحييها الله تعالى ؛
فأماته الله تعالى مائة سنة ، ثم أحياه ،
وفي ذلك يقول الله تعالى :
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثـُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبثْتَ قَالَ لَبثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبثْتَ مِئَةَ عَامٍ
فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ
كَيْفَ ننشِزُهَا ثـُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
[ سورة البقرة : 259].
المثال الخامس :
في قصة إبراهيم الخليل ، حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ؛
فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير ، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله ، ثم يناديهن ؛
فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض ، ويأتين إلى إبراهيم سعيـًا ،
وفي ذلك يقول الله تعالى :
( وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثـُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثـُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَـكِيمٌ) [سورة البقرة : 260].
فهذه أمثلة حسِّيَّة واقعة ، تدل على إمكان إحياء الموتى ،
وقد سبقت الإشارة إلى ما جعله الله تعالى من آيات عيسى بن مريم في إحياء الموتى ،
وإخراجهم من قبورهم - بإذن الله تعالى - .
وأما دلالة العقل : فمن وجهين :
أحدهما :
أن الله تعالى فاطر السموات ، والأرض ، وما فيهما ، خالقهما ابتداء ،
والقادر على ابتداء الخلق، لا يعجز عن إعادته ،
قال الله تعالى :
( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثـُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [سورة الروم : 27] .
وقال تعالى : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الأنبياء : 104].
الثاني :
أن الأرض تكون ميتة هامدة ، ليس فيها شجرة خضـراء ؛ فينزل عليها المطر ؛
فتهتز خضراءَ حيـَّةً ، فيها من كل زوج بهيج ، والقادر على إحيائها بعد موتها ،
قادر على إحياء الأموات،
قال الله تعالى :
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا
لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة فصلت : 39] ،
وقال تعالى :
(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكـًا فَأَنبَتْنَا بـِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ *
رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بـِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [سورة ق : 9 ، 11]
أسأل الله أن نكون قد وُفقنا في الطرح ، فإن اخطأنا فمن انفسنا و الشيطان
و التمسوا لنا العذر و السماح ، وان أصبنا فما الصواب إلا من لدن مُنزل القرآن
و المنزه عن الخطأ و النقصان .
***
هدفي من السلسلة التوعية أولا واخيراً
ثم ذكر ما لم يُذكر
بارك الله بكم جميعا .. إن وُفقنا فمن الله وإن أخطأنا فمن انفسنا والشيطانفالتمسوا لنا العُذر و السماح
بنر الموضوع :
♥♥
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته